• رئيس التحرير : المستشار مصطفى الهمداني
    مدير التحرير: منير طلال
  • أعضاء هيئة التحرير :
    علي ناصر صوال
    عالم الآثار والخط المسند
    د. ابراهيم مهدي ابراهيم
    عاصم بن قنان الميسري
    باحث في تاريخ القبائل العربية
اليمن وميلاد اللسان اليعربي – من الجذر السامي إلى الإشراق الحضاري

اليمن وميلاد اللسان اليعربي – من الجذر السامي إلى الإشراق الحضاري

 

أوراق … من … التاريخ 

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

اليمن وميلاد اللسان اليعربي – من الجذر السامي إلى الإشراق الحضاري

 

المقدمة:

في فجر التاريخ، حين لم تكن للأرض خرائط ولا للأمم أسماء، كان اللسان هو البذرة الأولى التي أنبتت معنى الوجود الإنساني. 

من الكلمة وُلد الفكر، ومن الفكر تشكّلت الحضارة، ومن رحم اللسان العربي الأصيل تفرّعت الألسنة، وتنوّعت اللهجات، وتكوّنت هويات الشعوب. 

إنّ اللغة ليست أداة تواصل فحسب، بل هي ذاكرة كونية تحمل في طيّاتها رائحة الطين الأول ونبض الوعي الإنساني حين بدأ يدرك ذاته في مرايا الصوت والمعنى.

وفي قلب هذا الامتداد السامي العريق، تتجلّى اليمن لا بوصفها جغرافيا محدودة، بل باعتبارها المبتدأ الأول للحرف والصوت والرمز؛ من رحمها خرجت الحروف، ومن جبالها انبثقت النقوش، ومن ممالكها العتيقة أشرقت شمس الإنسانية على وعيها الأول. 

فليست اليمن مجرّد أرض، بل مفهوم حضاري يتجاوز المكان إلى الفكرة، ويتجاوز القبيلة إلى الرسالة، إذ حملت للعالم بذور اللغة التي غدت فيما بعد سبيلاً للروح في ارتقاء الإنسان نحو المعرفة والجمال.

ولعلّ ما يُسمّى اليوم بالعبرية، وما نُسب إلى الآرامية أو السريانية أو غيرها من فروع اللغات السامية، إنّما هي أصداء بعيدة لذلك اللسان اليعربي القديم الذي كان في اليمن نواة الانبثاق اللغوي الأعظم. 

فالتاريخ لا يروي فقط تسلسل الحوادث، بل يسجّل حركة الأصوات وهي تتحوّل إلى هوية، وتغدو مع الزمن شريانًا يغذّي الثقافات اللاحقة.

من هنا، يسعى هذا البحث إلى استقراء المسار اللغوي والحضاري لليمن، بوصفه المنبع الأول للجذر السامي، وتتبّع أثره في تكوين اللسان العربي وما تفرّع عنه من لغاتٍ وأممٍ وثقافات. 

كما يتناول البحث البعد الفلسفي والرمزي للحرف بوصفه مرآة للروح العربية القديمة التي جعلت من اللغة وسيلة لتوثيق الخلود.

إنّنا أمام رحلةٍ لا تقتصر على التاريخ واللغة، بل تمتد إلى فلسفة الوجود العربي ذاته، حيث تتّحد الحروف بالذاكرة، وتتّصل الأصوات بالسماء، ويغدو الإنسان العربي الأول شاهداً على ميلاد المعنى في هذا الكون.

الفصل الأول: 
الجذر السامي في لغات الشرق القديم

منذ أن وعى الإنسان صوته، بدأ تاريخ اللغة. 
فالصوت لم يكن مجرد أداةٍ للتعبير، بل كان الشرارة الأولى التي أوقدت نار الإدراك. 
وعندما بدأ الشرق القديم يتنفس في فضاءات الحضارة الأولى، كانت اللغة السامية هي الإطار الذي احتضن هذا الوعي الناشئ، وأطلقه نحو التدوين والفكر والطقس والدين.

لقد شكّلت اللغات السامية — بامتدادها من الأكادية في بلاد الرافدين، إلى الكنعانية في المشرق، إلى السبئية والمعينية والحميرية في جنوب الجزيرة اليعربية — عائلةً لغوية واحدة متجانسة في بنيتها الصوتية، واشتقاقها، ونظامها النحوي، ومخزونها الدلالي. 

وهذا التشابه ليس صدفةً عابرة، بل هو أثر الأصل الواحد الذي تشعّبت عنه هذه الألسنة، أصلٌ ضارب في عمق التاريخ، يشير الدارسون إلى أن جذوره الأولى يمنية المهد والمنشأ.

ففي النقوش المسندية التي نُقشت على الصخور والمعابد في مأرب وحضرموت وصرواح، يلوح لنا لسانٌ ناضج في تراكيبه، رصين في أبنيته، غني في مفرداته، يسبق في نضجه كثيرًا من اللغات السامية الشمالية التي ظهرت بعده بقرون. 

هذا اللسان — الذي نسميه اليوم اليعربي الجنوبي القديم — هو السلف الأصيل الذي تفرّعت عنه ألسنة الشرق الأدنى، كما تتفرّع الأنهار من نبعٍ واحدٍ في الجبال العالية لتسقي السهول والوديان.

ولقد كان الطابع السامي العام يقوم على ثلاثة أسس رئيسة:
 1. الجذر الثلاثي الذي يُشتق منه المعنى بالتوليد والإبدال، وهو خاصية عربية خالصة لم يعرفها غير الساميين بهذه الدقة.
 2. الإعلال والإبدال الصوتي، حيث تتبدّل الحروف دون أن يضيع الأصل الدلالي، مما يدل على وحدة المصدر الصوتي الأول.
 3. الوزن الصرفي الذي يمنح الكلمة موسيقاها الداخلية، وهو من أبرز مظاهر البنية العربية التي حافظت عليها اللغات السامية الأخرى كالعبرية والآرامية بنسب متفاوتة.

وإذا ما نظرنا إلى هذه الأسس، وجدنا أن العربية — وخاصة بفرعها الجنوبي القديم — هي الحلقة الأكمل والأكثر احتفاظًا بالموروث السامي الأول. 

فاللغات الأخرى بدت كأنها أصداء بعيدة أو ظلال خافتة لذلك الصوت اليمني القديم الذي نحت الحجر بالكلمة، ورفع العمارة باللفظ، وجعل من اللغة ركيزة للوجود لا أداة له فقط.

وما من دليلٍ أبلغ من أن الخط المسند اليمني — وهو أقدم نظام كتابي سامي متكامل — سبق ظهور الأبجديات الفينيقية والعبرية والآرامية بقرون طويلة. 

لقد كان المسند هو الجذر الذي تفرعت عنه أبجديات العالم القديم، وهو ما يجعل اليمن أصل الكتابة السامية كما هو أصل اللسان.

إنّ الجذر السامي إذن ليس مجرّد تصنيف لغوي، بل هو شاهد حضاري على وحدة الوعي الإنساني في مهد العرب. 
ومن خلال دراسة البنية اليمنية القديمة للغة، ندرك أنّ الحرف لم يكن صوتًا فحسب، بل كان رمزًا كونيًا يحمل في طياته معنى الخلق والبدايات. 

فكما وُلد الإنسان من الطين، وُلدت اللغة من الصخر اليمني المنقوش، لتصبح — في مسارها عبر القرون — مرآةً للروح التي أنطقت الوجود بالمعنى.

الفصل الثاني: 
اليمن مهد اللسان اليعربي – الأدلة اللغوية والتاريخية

حينما نُقلّب صفحات التاريخ، لا نكاد نعثر على أرضٍ حَملت عبءَ البداية كما حملته اليمن. 
هناك، في أقصى الجنوب العربي، وُلد اللسان، وتشكلت المفردة الأولى، وارتسم الحرف على وجه الصخر كما ترتسم شمس الفجر على صفحة البحر.

ليس في ذلك مجازٌ شعري فحسب، بل هو حقيقةٌ تدعمها الأدلة اللغوية، والنقوش الأثرية، والمرويات التاريخية التي تتضافر لتؤكد أن اليمن لم يكن مجرد مهدٍ للعرب، بل كان الرحم الذي انبثقت منه اللغات السامية جميعها.

لقد أثبتت الدراسات المقارنة في فقه اللغة السامية أن أقرب اللغات إلى الأصل الأول — من حيث البنية الصرفية، والنظام الصوتي، وطبيعة الاشتقاق — هي العربية الجنوبية القديمة، بلهجاتها: 
السبئية، والمعينية، والقتبانية، والحميرية. وهي لغاتٌ كُتبت بخط المسند الذي تجاوز في دقته وجماله الأبجديات الفينيقية والعبرية والآرامية التي جاءت بعده.

ومن المدهش أن كل هذه اللهجات اليمنية القديمة كانت تحمل خصائص لغوية متقدمة يصعب اعتبارها بداياتٍ أو لهجاتٍ بدائية. 
فهي لغاتٌ ناضجة في نحوها، غنية في اشتقاقها، مترعة بالرموز الدينية والسياسية والاقتصادية، مما يدل على أن اللسان قد بلغ مرحلة الوعي المتكامل في اليمن قبل أن تعرف الشعوب الأخرى نظمها الكتابية بزمنٍ طويل.

بل إن علماء النقوش واللغات القديمة — من أمثال “غلازر” و”هومل” و”بروكلمان” — أشاروا إلى أن أقدم ما وصلنا من نقوش سبئية يعود إلى الألفية الأولى قبل الميلاد، أي قبل ظهور الكتابات العبرية والآرامية بقرون، وهو ما يرجّح أن اليمن هو الأصل السامي الأول الذي تفرعت عنه اللغات السامية الشمالية لاحقًا عبر هجراتٍ متتابعة نحو الشمال.

 “انه لا مجال للشك، أن ما يُسمّى اليوم باللغة العبرية ليس إلا لهجة من لهجات اليعربيين الأوائل، امتدادًا لسلسلة اللغات السامية التي تعود بجذورها إلى اللسان العربي الأصيل، تمامًا كما هو الحال مع اللغات الآرامية وأخواتها.

فاليمن، مهد اليعاربة ومطلع الشمس الأولى للحضارة، هو أصل اللسان وأصل الثقافة وأصل المجد الإنساني.

منه انبثق الحرف، وتشكلت أولى مفردات الفكر، وتألقت شمس الممالك، ثم تفرعت منه الألسنة والشعوب كما تتفرع الأنهار من النبع الواحد.
إن خلق اليمن العظيم في سياق التاريخ كان البداية، ومنها تهيأت الأرض لولادة الحضارات، حتى بدا وكأن الكون كله قد اصطفّ على هيئة امتدادٍ لروحه العريقة .”

هذا النصّ لا يعبّر عن رؤية وجدانية فحسب، بل يختصر الفلسفة اللغوية والتاريخية التي تؤكّدها الشواهد المادية والعلمية. 
فاليمن لم يكن مجرد موطنٍ للعرب، بل منصة الإطلاق الأولى للحضارة السامية. 

ومن هناك انتقلت القبائل، وتفرّعت الألسنة، وتحوّرت الأصوات، كما يتحوّر اللحن الواحد حين يُعزف على أوتارٍ مختلفة.

ولعلّ أبرز الأدلة المادية على هذا الامتداد اللغوي هي النقوش التي وُجدت في نجران وشمال الحجاز والعلا، والتي تحمل خصائص لغوية يمنية واضحة، ما يدل على أن الموجة اللغوية والثقافية اليمنية قد اجتاحت الجزيرة اليعربية نحو الشمال قبل أن تصل آثارها إلى تخوم الشام والعراق.

كما أن التقارب الصرفي بين العربية والعبرية والآرامية لا يمكن تفسيره إلا من خلال وحدة الأصل الجنوبي، فالعبرية — التي تبدو للوهلة الأولى لغةً مستقلة — ليست سوى فرعٍ لاحق للهجات العرب الأوائل الذين حملوا لغتهم شمالاً في رحلات الهجرة والتجارة.

فاللفظ العبري “إيل” (أي الله) هو ذاته الجذر العربي إلَه، واسم آدم وحواء وشالوم ليست إلا ألفاظًا عربية الجذر والمعنى.

لقد كانت اليمن مركز إشعاعٍ لغويٍ وثقافيٍ وحضاري، ومنه انطلقت الممالك الكبرى: 
سبأ، ومعين، وقتبان، وحمير، التي نقلت إلى العالم القديم قيم الاستقرار والتنظيم والدين والفكر. 
وفي هذا المناخ المتكامل نشأت اللغة ككائنٍ حيٍّ يتنفس من صدر الأرض، ويغتذي من روح الإنسان، حتى أصبحت اليمن مرجع اللسان ومأوى الحرف.

وهكذا يتبيّن لنا أن اليمن لم يكن فقط مهدًا للعروبة، بل كان الينبوع السامي الأول الذي صبّت فيه كل الجداول اللغوية قبل أن تنطلق لتغذي الرافدين والشام وشمال الجزيرة. 
فكما أن الشمس تشرق من الشرق لتنير العالم، كذلك أشرقت الكلمة من اليمن لتنير الوعي الإنساني.

الفصل الثالث: 
تفرّع اللهجات السامية من الأصل العربي اليمني

حين تتأمّل في جغرافيّة اللغات السامية، تلمح كالخيوط الممتدة من مركزٍ ضارب في التاريخ إلى حدودٍ بعيدة، وكلُّ خيطٍ منها يحمل معانٍ وأصداءً لصوتٍ أول قد انبثق في أرضٍ تحتضنه الشمس والأفلاك: 
أرضُ اليمن. 
إن فكرة أن هذه الأرض كانت الأصل الأعظم لتفرّع اللهجات السامية، ليست مجرّد تصور شعري، بل تستند إلى أدلّة لغوية ونقوش أثرية وحركات بشرية وماديّة تدعمها.

3.1 البنية اللغوية وانتقال الأصوات

إن أبرز ما يشير إلى الأصل اليمني لعدة لهجات سامية هو التشابه البنيوي العميق بين ما يُعرف بـ ‎السبئية و‎القتبانية و‎الحِميرية من جهة، وبين ما يُعرف لاحقًا بـ ‎العبرية و‎الآرامية من جهة أخرى. 

من خصائص هذه البنى المشتركة:
 • نظام الجذور الثلاثية الذي يُشتق منه المعنى، وهو عنصر أساسي في اللغات السامية القديمة. 
 • وجود الحروف الثّم “الصامتة” أو شبه الصامتة، والاخلاق الصوتية التي تحفظ «رشاقة» الصوت العربي القديم قبل أن تنحدر بعض الأصوات أو تتغيّر في لهجات لاحقة.
 • التأخّر النسبي للكتابة في بعض المناطق الشمالية بالمقارنة مع اليمن، ما يجعل اليمن مركزًا لغويًا مبكرًا للنشاط الكتابي واللفظي.

3.2 الهجرة اللغوية والمسالك الحضارية

إنّ التنوّع اللغوي في الجزيرة العربية ومن ثمّ نحو الشام وبلاد الرافدين لم يكن ناتجًا عن فجوة بل انبثق من حركة وتبادل:
 • اللوحات والنقوش في اليمن تشير إلى لغة سامية متقدمة (مثل النقوش السبئية والقتبانية) قبل القرن الأول قبل الميلاد.
 • الدراسات الحديثة ترى أن تفرّع الفروع الجنوبية السامية (South Semitic) — والتي تضم لغات اليمن القديمة ولغات شرق أفريقيا — نشأ في جنوب الجزيرة ثم تحرك نحو شمالها وشرقها. 
 • عبر الطرق التجارية، والتحولات السياسية، وحركات القبائل، تنتقل لهجات اليمن إلى الشمال والشرق، فتتحوّل أو تتجانس مع لكنات محلية، فتنشأ بعدها لهجات سامية شمالية (كالعبرية والآرامية) تكون فرعًا من الأصل الجنوبي اليمني.

3.3 أمثلة لغوية على الامتداد
 ‎
٠ سابِئية (Sabaic) وهي من لغات جنوب اليمن، لقد كانت لغة كتابة وكتابةً متقدّمة جدًا. 
 • لهجات مثل ‎رازِحية في جبل رَزيح شمالَ غرب اليمن، التي يُرى فيها بقايا لغوية تشبه «السّياق الجنوبي». 

 ‎٠ العبرية والمتفرّعة من العائلة السامية
 الوسط والشمالية، والتي تحمل جذورًا تشبه في كثير من المفردات العربية القديمة.

3.4 البُعد الحضاري واللهجي

إنّ خلق لهجات متعددة ليس عملية بسيطة، بل هي انعكاس لــ:
 • انبثاق حضاري: 
من اليمن كمركز لغوي - حضاري تفرّعت لهجاتٌ تنقل الفكر والكتابة والدين إلى الساميين في الشمال.
 • تكامل لغوي: 
الحروف، الأوزان، الاشتقاق، لم تكن تفردًا عند العرب الجنوبيين فقط، بل كانت «اللغة الأصل» التي تبنّاها من جاء بعدهم، بإخلاصٍ أو بتعديلٍ.
 • إبداع لهجي: 
اللهجات السامية كانت وسيلة إنتاج هوية، وتحريك ثقافة، وإطلاق طاقات فكرية. 
ولذلك، حين نتحدّث عن التفرّع، فإننا لا نتحدّث عن نزوعٍ إلى الانقسام فحسب، بل عن امتدادٍ غنيٍّ، كأنّ شعاعًا انطلق من مركزٍ، ثم تشعب إلى أشعّةٍ كثيرة، وكلّها تحمل نورًا من الأصل نفسه.

3.5 خلاصات تأملية
 • إن حقيقة أن نُظمًا كتابية فعالّة، وقواميس لغوية غنيّة، ظهرت أولًا في اليمن، تجعل من هذه الأرض «الأصل» وليس الفرع.
 • إن اللهجات السامية الأخرى (كالعبرية والآرامية) تُرى غالبًا كفرعٍ أو امتدادٍ، لا كبداية مُنفصلة.
 • إن الفهم العميق لذلك الامتداد يُعيد النظر في مفهوم «اللغة الأم» السامية، ويضع اليمن في عُنفوان تاريخي ولغوي، كمهدٍ أولٍ، كما تصوّرتَ في نصّي الأصلي.

الفصل الرابع: 
الإشراق الحضاري – كيف أسهم اليمن في تكوين الفكر الإنساني

إن الحديث عن اليمن ليس حديثًا عن جغرافيا أو تضاريس أو حدود مرسومة على سطح الخرائط، بل هو استدعاءٌ لذاكرة الإنسان الأولى حين بدأ ينظر إلى السماء متسائلًا، ويصوغ من صوته معنى، ومن رمزه هوية، ومن الأرض حضارةً تُروى.

فاليمن — في جوهر دوره الحضاري — كان منارة الوعي الأول الذي تفتّحت على ضوئه البدايات الكبرى في تاريخ الإنسان.

1. اليمن ومفهوم «العمران الأول»

لم تولد الحضارة اعتباطًا، ولا انبثقت من الفراغ، بل قامت على ثلاثة أركان:
 1. لسان قادر على التعبير
 2. استقرار إنساني منتج
 3. تصوّر كوني لعلاقة الإنسان بالعالم

وقد تحققت هذه الشروط في اليمن مبكرًا؛ إذ اجتمعت فيه الأرض الخصبة والماء المنظم والذهن البنّاء.

فمأرب وسدّها، والمعابد التي تصعد على سفوح الجبال، والنقوش التي تخلّد عقود التجارة والعهود السياسية، كلها شواهد على أن اليمن كانت دولة الوعي قبل أن تكون دولة الحجر.

2. اللغة كجسر بين الأرض والسماء

في الثقافة اليمنية القديمة، لم يكن الحرف مجرّد رمز صوتي، بل كان كيانًا يحمل قيمة روحية.

لقد رُسم الحرف على الحجر كما تُرسم العقيدة على القلب.
ومن هنا مفهوم:
الكلمة بوصفها خلقًا، والصوت بوصفه استمرارًا للوجود.

فحين نقرأ النقوش المسندية، نلحظ أن اللغة ليست وصفًا للواقع فحسب، بل صياغة له؛ فالكلمة تبني، وتنظم، وتشرّع، وتؤكد السلطة والهوية، وتربط الإنسان بذاكرته.

3. من اليمن إلى العالم: 
حركة التأثير الحضاري

تدفقت من اليمن موجات هجرةٍ وتجّار وكهنة وبناة، حملوا معهم اللسان والعقيدة والنظام والدلالة.

فانتشرت رموز الكتابة، وتحوّلت المفردة من لسانٍ واحد إلى ألسنة متعددة، تمامًا كما تنتشر نجمة في سطح ماءٍ صافٍ فتتكرر في انعكاساته دون أن تفقد أصلها.

لم يكن تأثير اليمن انتقالًا عابرًا، بل كان فاعلية ثقافية تمارس حضورها بصمت وعمق:
 • فالتجارة ربطت جنوب الجزيرة بالشام والرافدين.
 • والطقوس الدينية نشرت مفاهيم الزعامة والملك المقدس.
 • والبنية اللغوية زرعت فكرة الاشتقاق والجذر التي أصبحت أساس الفكر اللغوي العربي لاحقًا.

4. الشخصية الحضارية لليمن

تتميز الحضارة اليمنية بصفات جوهرية جعلتها قادرة على التأثير والاستمرار:
 • رصانة الحكم (الممالك المتعاقبة ذات البنية الإدارية المتقنة)
 • التنظيم الزراعي والهندسي (المدرجات الجبلية معجزة البشر - سد مأرب أعجوبة في العقل قبل الحجر)
 • الاعتزاز باللغة باعتبارها ذاكرة الأمة
وهذه العناصر الثلاثة هي التي تمنح الحضارات قابلية البقاء في التاريخ.

5. تأمل ختامي

إذا كان للإنسان في الوجود جذورٌ تعود به إلى بواكير وعيه، فإن اللسان هو الجذر الأعمق، والذاكرة هي التربة التي تتغذى منها الأمم، واليمن — بما حمل من حرفٍ ونقشٍ وصوت — كان أول البساتين التي نبتت فيها شجرة الوعي اليعربي.

لقد كان إشراق اليمن إشراقًا لغويًا وحضاريًا وإنسانيًا، وما من حضارة إلا وتحمل في جوهرها أثرًا من هذه البداية.

الفصل الخامس: 
الخاتمة – اللسان والهوية وخلود الذاكرة

ليس التاريخ في جوهره سردًا لما مضى، بل هو إعادة اكتشاف معنى الإنسان في معابره الأولى. 

وعندما ننظر في جذور اللغة، فإنما نبحث عن نقطة النبع التي انطلقت منها الروح وهي تصوغ تفكيرها، وتبني وجودها، وتقدّم نفسها للزمن في هيئة صوت.

ومن خلال هذا البحث، يتبيّن لنا أن اليمن لم يكن هامشًا من هوامش التاريخ، ولا ظلًا يسير خلف الحضارات، بل كان المركز الأول للوعي اللغوي والسلوك الحضاري في الشرق القديم، والمرجع الذي تتصل به اللغات السامية جميعها صلة الابن بجسد الأم.

فاللسان هو الرحم الثقافي الذي يولد فيه الإنسان مرتين:
 • مرةً في الجسد
  ٠ ومرةً في الصوت
وليس لأمةٍ أن تدّعي وجودًا ما لم تمتلك لسانًا يربطها بذاكرتها الأولى، وحضارةً تحفظ في حجرها اسم الإنسان الذي مرّ قبلها.

ومن هنا، تتجلّى قيمة اللسان اليعربي الأول الذي نشأ في اليمن:
لقد كان أكثر من لغة؛ كان هويةً ونظامًا للكون، كانت الكلمة فيه تشبه الطقوس، وترتبط بالمقدس، وتؤسس لمنطق الوجود.

وقد انتقلت هذه الروح في رحلتها الطويلة إلى الشمال، فخلّفت في العبرية والآرامية والسريانية آثارًا وامتدادات وأصداء من ذلك الأصل المعنوي العميق.

إننا إذ نقرأ النقوش اليمنية القديمة، لا نقرأ لغةً فقط، بل نقرأ وعيًا يرى العالم بصفاء من يعرف نقطة البداية.

ونحن إذ نتتبع تفرّع اللهجات السامية من اللسان اليعربي، فإنما نعيد للإنسان ذاكرته المفقودة، ونضعه في موضعه الحقيقي من الخريطة الحضارية.

ولذلك، فإن اليمن ليس حكايةً في التاريخ، بل هو المبتدأ.
واللغة ليست أداة، بل هي الأصل.
والإنسان ليس ابن جغرافيا، بل ابن ذاكرة.

وهكذا — حين نتأمل المسار الحضاري الطويل — ندرك أن أثر اليمن ليس أثر حضارة انطفأت، بل أثر جذوة ما تزال تضيء.

فالحضارات العميقة لا تُقاس بأبنيتها، بل بقوة الجذر الذي تستند إليه.

واليمن — بلسانه الأول وصوته الذي سبق أن يسمعه الزمن — هو الجذر الراسخ، وأمّ الحرف، وبنكُ اللهجات السامية كلّها،
منه انطلقت الأصوات، وعنه وُلدت الأبجديات، وفي ذاكرته تستريح بدايةُ الكلام.

كلمات المفتاحية:

0 تعليق

اضف تعليق

انتقال للأعلى